المبحث الثالث : أثر الرجوع عن الإقرار:
أولاً: أثر الرجوع عن الإقرار في الفقه الإسلامي:
إذا ثبت الحد بالإقرار فلا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنه لا يسقط إلا بالرجوع عن الإقرار، والحد يدرأ بالشبهة، وذلك لما لقن النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً الرجوع فلو لم يكن محتملاً للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين فائدة، ولأن الرجوع يورث الشبهة، والرجوع قد يكون صريحاً وقد يكون دلالة بأن يأخذ الناس برجمه فيهرب أو أثناء الجلد فيهرب ، فلا يلحق به إن هرب، وهذا يدل على الرجوع. ما عدا حد القذف فلا يسقط بالرجوع لأنه حق للعبد .
حالة الرجوع عن الإقرار في عقوبة حد الزنا إما أن تكون قبل الحكم أو اثنا تنفيذ الحكم:
أ/ الرجوع عن الإقرار قبل الحكم، وهي أن يأتي الزاني ليقر بالزنا مرة واحده، والمطلوب أن يكرر اعترافه أربع مرات حتى يحكم عليه بعقوبة الزنا، فإذا اعترف مرة واحدة ثم تراجع فلا يحكم عليه بعقوبة الزنا، واستدلوا بحديث ماعز والغامدية، عن سليمان بن بريده عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله طهرني، فقال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني، فقال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله فيما أطهرك فقال من الزنا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون ؟ فاخبر أنه ليس مجنون، فقال أشرب خمر؟ فقام رجل فاستنكه فلم يجد منه ريح خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أزنيت قال نعم، فأمر به فرجم) . جاءت امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، قال وما ذاك، قالت إني حبلي من الزنا فقال: أنت قالت نعم، فقال لها حتى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال فأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قد وضعت الغامدية، فقال إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي بالرضاعة يا نبي الله، قال فرجمها) .
ب/ الرجوع عن الإقرار بعد الحكم وأثناء التنفيذ، يسقط الحد ولا تقام العقوبة إذا تراجع المقر بعد الحكم وأثناء التنفيذ، والرجوع يكون بالكلام صراحة كأن يكذب نفسه، وينفي أنه زنى، وقد يكون دلالة كالهروب أثناء إقامة الحد أو بأي صورة تدل على الرجوع ، وجاء في حديث عروة عن عائشة بلفظ: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة) .
ذهب المالكية إلى ما ذهب إليه الحنفية في الرجوع عن الإقرار في عقوبة الزنا، إذا رجع عن الإقرار بالزنا قبل الحكم فإن أقر الزاني بالزنا مرة واحدة لا يحد حتى يراجع ليقر أربع مرات، حتى يحكم عليه بالعقوبة، وإذا اعترف مرة واحدة ثم تراجع فلا يحكم عليه، لحديث ماعز والغامدية، إذا رجع عن الإقرار بالزنا بعد الحكم وأثناء التنفيذ يسقط الحد ولا تقام العقوبة إذا تراجع المقر عن إقراره .
إذا اقر الزاني على نفسه بالزنا ثم رجع سقط الحد، والرجوع عن الإقرار بان يقول: كذبت أو أكرهت أو تراجعت عما أقررت به .
واشترطوا العدد في الإقرار بالزنا، فلا يثبت إلا بإقراره أربع مرات على نفسه مرة بعد مرة مع وجود شروط التكليف ولأنهم اعتبروا الإقرار مثل الشهادة، وكما أن الشارع اشترط في الشهادة على الزنا أربعاً على خلاف الشهادة في جميع الحدود، واستدلوا بحديث ماعز والغامدية، وإذا رجع المقر عن الزنا سقط الحد لأن رجوعه شبهة تدرأ الحد .
فإذا رجع عن إقراره ، وقع به بعض الحد أو لم يقع، يسقط عنه الحد أو ما بقي منه قال الماوردي
إذا رجع المقر بالزنا عن إقراره ، قبل رجوعه وسقط الحد عنه، وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء ، سواء وقع به بعض الحد أو لم يقع) .
من هنا تظهر بعض الحكمة من تنفيذ عقوبة الزاني المحصن بالرجم وهي لتترك فرصة للجاني إذا ثبتت الجريمة بإقراره بأن يرجع عن إقراره في أي مرحلة حتى ولو كان عند تنفيذ العقوبة فإذا مسته الحجارة وطلب توقيف تنفيذ العقوبة وكذب نفسه يقبل منه ذلك وتسقط بقية العقوبة سواء كان جلداً أم رجماً فإذا كان تنفيذ العقوبة شنقاً فماذا ينتظر عندما تسحب الخشبة التي تحت أقدامه ويلقي بجسده إلى الهاوية.
ثانياً: أثر الرجوع عن الإقرار في القانون وعمل المحاكم السودانية
القوانين الوضعية لا تقبل مبدأ الرجوع عن الإقرار إلا إذا ثبت أنه صدر عن غلط في الوقائع ، ولكن قانون الاثبات السوداني 1983م الملغي وقانون الاثبات السوداني لسنة 1994م مصدرهما التشريعي من الشريعة الإسلامية، فجعلا الرجوع عن الإقرار شبهة تدرأ الحد. جاء في المادة(21) الفقرة (3) اثبات
لا يشكل الإقرار في المسائل الجنائية بينة قاطعة إذا كان غير قضائي أو اعترته شبهة) . ونص في المادة(22) الفقرة (2) اثبات على: (يعتبر الرجوع عن الإقرار في جرائم الحدود شبهة تجعل الإقرار بينة غير قاطعة) .
أما في جرائم الحدود فإن الرجوع عن الإقرار يعتبر شبهة يدرأ الحد بها عمن تراجع عن إقراره لأن الرجوع صار شبهة والحدود تدرأ بالشبهات .
من الملاحظ أن المعنى في المادتين واحد يجعل الإقرار في جرائم الحدود وهي بالطبع مسألة جنائية كما في المادة(21)، لا يعتد به إذا كان غير قضائي أي ليس في أمام قاضي أو من يخوله القانون بأخذ الإقرار وكذلك إذا اعترته شبهة، مثل الإكراه أو الخطأ في الوقائع التي قادته إلى الإقرار.
عند اطلاع الباحث على السوابق القضائية وجدها كلها على فهم موحد ما عدا سابقة واحدة شذت وخالفت ما جاء به الفقه الإسلامي ويستطرد الباحث ذكر هذه السوابق بشيء من الايجاز المفيد.
أولاً: السوابق التي تعتبر الرجوع عن الإقرار في أي مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية شبهة تدرأ الحد:
1/ حكومة السودان //ضد // كلثوم خليفة عجبنا، النمرة : م ع / غ أ / 48 /1992م
إقرار المتهم بارتكاب جريمة الزنا في مرحلتي التحري والمحاكمة لدى محكمة الموضوع ثم رجع عن إقراره لدى محكمة الاستئناف الإكراه على ارتكاب جريمة الزنا فإن هذا الادعاء يعتبر شبهة تدرأ حد الزنا . والقاعدة العامة التي تحكم قبول الإقرار أو الاعتراف كبينة شرعية هي أخذه ككل دون تجزئته لأنه لا يجوز عدالة وإنصافاً أخذ ما هو ضد المعترف أو المقر وترك وطرح ما هو في صالحه. ولكن جرى العمل في المحاكم السودانية على وضع استثناءات معينة لهذه القاعدة العامة هي أن ترفض المحكمة أجراء الإقرار أو الاعتراف الذي يتجافى ويتعارض مع العقل والمنطق السليم والمجرى العادي للأمور الطبيعية ولا يتفق وطبائع الأشياء والظروف وقرائن الأحوال والملابسات التي تحيط بوقائع القضية وأن ترفض المحكمة أيضاً تلك الأجزاء من الإقرار أو الاعتراف التي تناهضها وتدحضها بينات أخرى والتي لا تطابق الحقيقة والواقع لأن المقر أو المعترف حشرها حشراً لتبرير أفعاله الإجرامية كادعاءات وأكاذيب باطلة و اختلافات و افتراءات لا أساس لها من الصحة والواقع مما لا يركن إليه وجدان المحكمة ولا يصدقه الضمير ولا يطمئن لصحة الرواية ولا تستطيع المحكمة أن تكون عقيدتها تجاهه عن قناعة تامة. ومعلوم إن للإقرار أو الاعتراف ضوابط وشرائط لابد من توافرها لتجعله جديراً بإثبات الجريمة الحدية فوق كل الشبهات ودون مرحلة الشك المعقول . فإذا أرتكب المتهم الجريمة الحدية وأقر بذلك في مرحلة تحريات البلاغ لدى الشرطة وفي مرحلة المحاكمة أمام محكمة الموضوع ولكنه دفع في إقراره بأنه أرتكب الجريمة الحدية نتيجة إكراه وأثبت ذلك أمام محكمة الموضوع بالدليل القاطع فإن شبهة الإكراه في هذه الحالة قوية تمحو وصف الجريمة الحدية ويترتب عليها براءة المتهم نهائياً ويخلي سبيله من غير أية مساءلة جنائية والسند والحجة على ذلك ما ورد في محكم التنزيل قوله عز وجل: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } سورة النحل {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والدليل على ذلك ما ورد في السنة المطهرة في قوله صلي الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وكذلك ما جاء في قضية حكومة السودان ضد الحاجة الحسين سليمان والتي استطاعت المتهمة أن تثبت بأنها استكرهت على ارتكاب جريمة الزنا من خلال إقرارها المؤيد بالظروف وقرائن الأحوال والملابسات التي أحاطت بالوقائع المتعلقة بالحادث- قضت المحكمة العليا بأن الوطء بإكراه سواء نتج عنه الحمل أو لم يتنج عنه ليس بجريمة مطلقاً حدية أو غير حدية في حق من أكرهت لانعدام الرضا والموافقة أي التعمد أو القصد الجنائي ومن ثم تمت براءة المتهمة.
ولكن لا يحكم بالبراءة ما لم يثبت الدفاع بان المتهمة قد استكرهت على ارتكاب الجريمة الحدية التي أقرت بارتكابها وإثبات ذلك قد يتم بالبينات المباشرة وغير المباشرة والظروف وقرائن الأحوال والملابسات التي تحيط بوقائع الجريمة الحدية.
و إذا أقر المتهم بارتكاب الجريمة الحدية أثناء التحري إلا أنه دفع فيما بعد في مرحلة إجراءات المحاكمة لدى محكمة الموضوع بأن إقراره صدر بناء على إكراه وتعذيب وسواء استطاع الدفاع أن يثبت ذلك أم لم يستطع أمام محكمة الموضوع فإن شبهة الإكراه يترتب عليها درأ الحد وتنزل الجريمة الحدية إلي جريمة عادية غير حدية وهذا بمثابة عدول ضمني عن الإقرار وتوقيع العقوبة التعزيرية المناسبة فقد قضت المحكمة العليا في قضية حكومة السودان ضد محمد عبدالله جاه الرسول بأن الاعتراف المسحوب هو الذي يذكر المتهم إنه أدلى به أو يقر بإدلائه وينكر إن ذلك كان عن طواعية.
ويتعين على المحكمة ألا تدين المتهم بالجريمة الحدية عملاً بقاعدة ضرورة التثبت والتريث والتشدد في إثبات جرائم الحدود- في حالة أن يكون الإقرار هو الدليل الوحيد- ما لم يكن الإقرار غير مسحوب صراحة أو ضمناً ففي قضية حكومة السودان ضد العوض مركز معالي قد قضى بأنه يجب على المحكمة التثبت من إن إقرار المتهم كان عن طواعية واختيار طبقاً للمادة 24 (2) من قانون الإثبات لسنة 1983م.
فإن الإقرار الذي أنتزع من المتهم انتزاعاً بالإكراه أو الإقرار الذي يشتبه في أنه انتزع من المتهم بالإكراه غير جدير بإثبات الجريمة الحدية.
و إذا أقر المتهم بارتكاب الجريمة الحدية أثناء التحري وأثناء المحاكمة لدى محكمة الموضوع إلا أنه رجع عنه أمام محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا حتى و لو ورد ذلك في شكل ادعاء في مذكرة الاستئناف أو الفحص بأن إقراره في مراحل إجراءات القضية في التحريات والمحاكمة كان نتيجة لإكراه أو أنه ارتكب الجريمة الحدية بالإكراه فإن شبهة الإكراه هنا في هذه الحالة يترتب عليها درء الحد وتتحول الجريمة الحدية إلي جريمة غير حدية أو يدرأ الحد و يستبدل بعقوبة تعزيرية ولا حاجة بمحكمة الاستئناف أو المحكمة العليا لإعادة الاوراق لمحكمة الموضوع من أجل التحقيق في ثبوت ذلك الادعاء بل يجوز لمحكمة الاستئناف أو المحكمة العليا نفسها أن تقوم بذلك الإجراء دون إثبات ذلك الادعاء الذي يشكل أدنى شبهة تدرأ الحد.
2/ حكومة السودان ضد مريم محمد سليمان، م ع / م ك / 76/ 1405هـ
الحمل ليس دليلاً قاطعاً في إثبات جريمة الزنا – المادة 77/3 من قانون الإثبات لسنة 1983م، ( وكذلك نص عليه قانون الاثبات لسنة 1994م المادة (62) الفقرة (ج) (الحمل لغير الزوجة إذا خلا من شبهة))، الحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا ، ربما تعتريه شبهة الإكراه أو العذرية ، إذا كان مجرد احتمال أن الحمل نتج عن وطء بإكراه أو خطأ أو دون إيلاج لبقاء البكارة لزم درء الحد.. الحمل ليس دليل إثبات على الزنا إذا اعترته شبهة. ويجب درء الحد عن الحامل كلما قامت شبهة في ارتكاب الزنا. وعند جمهور الفقهاء أن الحمل وحده لا يثبت به الحد ، بل لابد من الاعتراف أو البينة ، واستدلوا على ذلك بالأحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات ، وروى عن على بن أبى طالب "رضى الله عنه" أنه قال لامرأة حبلى "استكرهت؟ قالت لا "قال "لعل رجلاً أتاك في نومك" وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل قول امرأة ادعت أنها ثقيلة النوم وأن رجلاً طرقها ولم تدر من هو بعد.
ثانياً: السوابق التي لا تعتبر الرجوع عن الإقرار إذا عضده الحمل شبهة يدرأ الحد
حكومة السودان /ضد/مريم محمد عبد الله، (م ع/م ك/21/1405هـ)، (مكرر م ع/حدي/3/1405هـ)
هذه سابقة مخالفة لما جاء عند الفقهاء وعمل المحاكم السودانية لعدم أخذها الدفع بالإكراه وضللها في ذلك الحمل كقرينة لاحتمال الزنا والرضا به ولم تأخذ بمبدأ الشبهة المقررة شرعاً فألقت بدفع المتهمة بالإكراه عرض الحائط.
في الجرائم الحدية يجب على محكمة الموضوع أن تناقش المسقطات أو الشبهات التي تدرأ الحد واحداً تلو الآخر قياساً على ما جرى عليه العمل في قضايا القتل العمد حيث تناقش المحكمة استثناءات المادة 249 من قانون العقوبات الخاصة بالاستثناءات التي تغير من وصف الجريمة من قتل عمدي إلى قتل شبه عمدي .
قد استند الاتهام في هذه القضية على الإقرار والحمل الذي بلغ سبعة أشهر ، وناقشة المحكمة هذين الدليلين وفقاً للشروط التي يتطلبها القانون .
لقد أقرت المتهمة وفي كل مراحل القضية بأن المتهم الذي أطلق سراحه لعدم وجود بينة ضده قد اتصل بها جنسياً ولم تتراجع عن إقرارها بل حتى في طلب الاسترحام الذي تقدمت به لم تزل على أمرها . جاءت المادة 19(1) من قانون الإثبات معرفة الإقرار بأنه هو إخبار شخص بواقعة تثبت مسئولية مدعى بها عليه وجاء في المادة 20(2) من ذات القانون أنه ينحصر الإقرار القضائي في المسائل الجنائية في الإقرار بواقعة في مجلس القضاء أثناء إجراءات الدعوى المتعلقة بها – ونصت المادة 22 أنه يكون الإقرار صراحة أو دلالة ويكون باللفظ والإشارة ... الخ واشترطت المادة 23(1) في المقر أن يكون عاقلاً بالغاً سن المسئولية التي ينص عليها القانون ومختاراً وغير محجور عليه . واعتبر الإقرار غير صحيح إذا كذبه ظاهر الحال ( المادة 24) وأنه لا يكون صحيحاً إذا كان نتيجة إغراء أو إكراه على أن يعتبر الرجوع عن الإقرار في المسائل الجنائية شبه تجعل الإقرار بينة غير قاطعة . لقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أقر بحد ثم رجع عنه فإن الحد يسقط عنه إذا لم يكن هنالك دليل آخر لإثباته. ولقد أخذ المشرع السوداني برأي الجمهور فنصت المادة 26 (2) من قانون الإثبات : يعتبر الرجوع عن الإقرار في المسائل الجنائية شبهة تجعل الإقرار بينة غير قاطعة ونصت المادة 80 (2) أنه يعتبر من الشبهات الرجوع عن الإقرار والصلة في اعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة هو أن رجوع المقر عن إقراره يورث خللاً حكماً في إقراره السابق وإن كان قد صدر مستوفياً شروطه والشبهة هي إما أن يكون صادقاً في الرجوع وهو الإنكار ويحتمل أن يكون كاذباً فيه , فإن كان صادقاً في الإنكار يكون كاذباً في الإقرار وإن كان كاذباً في الإنكار صادقاً في الإقرار فيورث شبهة في الحد وهو لا يستوفي مع الشبهة .
هل استكرهت المتهمة على ارتكاب الجريمة؟
لم تقتنع المحكمة بادعاء المتهمة للإكراه لارتكاب الجريمة ووصفته بأنه قول يعوزه الدليل. وأكدت بأن ما جاء في أقوال المدانة في التحري وأثناء المحاكمة وما ذكرته في طلب الاسترحام يجعل المحكمة تستيقن أنه لم يكن هناك إكراه قد وقع على المدانة فلقد ذكرت في التحري أنه قد تم الاتصال بها جنسياً مرتين وأنها قد خافت وسمحت له بالاتصال وذكرت في المحكمة أنه اتصل بها وهي نائمة وفي استجوابها ذكرت أنها كانت خائفة وذكرت في طلب الاسترحام الذي تعرضت به أنه قد استعمل معها القوة لارتكاب الجريمة وهي ترعى معه بهائمها في الخلاء و أنه من الصعوبة بمكان أن يتم الاتصال الجنسي بالمرأة عن طريق القوة بل الثابت أن المتهمة قد مكنت الزاني من إتيان الفاحشة معها وكانت مختارة في ذلك وطوال هذه الفترة لم تبلغ السلطات بالحادث والإكراه الذي وقع عليها ، فلا قول بإكراه المتهمة على إتيانها أضف إلى ذلك أن تضارب أقوال المتهمة وتناقضها في مراحل القضية المختلفة يجعل المحكمة تستيقن يقيناً لا يزاوله شك بأن المتهمة لم تكن صادقة في أقوالها وأنها لجأت إلى الكذب الصريح بل أن المحكمة يمكنها القول بأن الاتصال الجنسي مع المتهمة قد تم أكثر من مرة حسب ما ذكرت هي في يومية التحري والتي تليت عليها في المحكمة وأقرت بها .
ثم قالت المحكمة وبما أن الجريمة في هذه القضية ثابتة ببينة أخرى منفصلة وهي الحمل وبما أن القانون قد نص على أن الحمل يعتبر بينة لإثبات جريمة الزنا إذا لم يكن للمرأة زوج إلا أنه في هذه القضية اتضح أن المرأة متزوجة من الشاكي ولكننا يمكننا أن نعتبر أن الحمل أيضاً بينة في هذه الحالة حيث ثبت بالبينة أن المتهمة قد غاب عنها زوجها أكثر من سنة ولم يحصل وطء بينهما بالرغم من ذلك رأت دم الحيض أكثر من مرة مما يقطع الشك بأن الحمل لم يكن من زوجها بل كان من شخص آخر وبما أن المتهمة قد ادعت أنها كانت مكرهة فإننا نرى أنها يجب عليها أن تقيم دليلاً أو قرينة على صحة دفاعها قياساً. والمتهمة لم تستغيث ولم تبلغ عن اتصال المتهم بها رغم أن الاتصال قد تم مرتين مع الأخذ في الاعتبار أن إتيان المرأة دون رضاها أمر جد عسير وأننا نرى أن الأخذ بهذا الرأي يقفل الباب أمام انتشار الفساد والرذيلة مع الأخذ في الاعتبار أن الحمل هو قمة الضرر الذي يمكن أن ينتج من الزنا وأن المشرع قد رأي الأخذ بالحمل بينة منفصلة دون أن يربطه بالإقرار أو ببينة الشهود . جاء في المذكرة التفسيرية لقانون العقوبات ، ( وكان لا بد من تحديد البينة على الزنا لشدة العقوبة ولأن البينة جاءت مرتبطة مع الجريمة في كتاب الله فوجب تحديدها كما تم أيضاً تحديدها في قانون الإثبات ) . وعليه أرى أن المتهمة قد ارتكبت جريمة الزنا المعرفة في المادة 306 والمعاقب عليها في المادة 318(1) والتي تطابق أيضاً المادة 430(2) من قانون العقوبات لسنة 1983 وعليه أرى تأييد الحكم الصادر ضد المتهمة وتوقيع العقوبة الشرعية عليها وهي الإعدام رجماً .
كما تقدم من تحليل نجد أن قانون الاثبات السوداني لسنة 1994م جعل الرجوع عن الإقرار في جرائم الحدود شبهة تدرأ الحد وكذلك القانون الجنائي لسنة 1991م جعل الرجوع عن الإقرار من مسقطات عقوبة حد الزنا متمشياً مع ما جاء في الفقه الإسلامي ودرجت المحاكم السودانية العليا على أن الرجوع عن الإقرار في أي مرحلة من مراحل الدعوة شبهة تدرأ الحد ومن تفسير الرجوع عن الإقرار ادعاء الإكراه.
الترجيح:
عليه نرجح أن الرجوع عن الإقرار في أي مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية شبهة تدرأ الحد حتى ولو كانت المرأة حاملاً للآتي:
1/ إذا ثبت الحد لا مجال للعفو عنه ولكن تسقطه الشبهة.
2/ الحمل قرينة قوية لغير المتزوجة أو الغائب عنها زوجها مدة طويلة ولكن تزول بادعاء الاكراه.
3/ المرأة في الغالب إذا اغتصبت لا تكلم أهلها مخافة الفضيحة وخاصة إذا كانت مطلقة أو متوفي عنها زوجها أو غائب عنها زوجها، لأنه لا يفضحها إلا الحمل فتنظر، فإن لم يظهر الحمل تكون قد سترت نفسها وأهلها، أما البكر مظنة أن تخبر أهلها واردة، لأنها تخاف من كشف أمرها عند الزواج.
4/ في جرائم الحدود دور القاضي سلبي، متى ما وجد مخرجاً خلى سبيل المتهم.
5/ فمن أقر بارتكابه حد الزنا لا تأخذ المحكمة بإقراره مباشرة وإنما تناقشه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز، ( أبك جنون لعلك قبلت ...) وهكذا حتى تطمئن على صحة إقراره.