المبحث الرابع: مقارنة اختيار الحاكم في (النظام الاسلامي والنظم الديمقراطية)
بعد النظرة التأريخية لنظام اختيار الحاكم في الدول غير الإسلامية قديماً وحديثاً والنظام العربي قبل الإسلام وفي الإسلام نحاول إيجاد النظام الأمثل بعد المقارنة ولابد من البداية بالنظم الديمقراطية .
اختيار الحاكم في النظم الديمقراطية:
وفي الديمقراطية يتم اختيار الرئيس للدولة بالانتخابات، وهي طريقة يتم فيها التصويت من قبل الشعب بأكمله، جاء في( الموسوعة العربية العالمية بشأن الانتخابات): "الانتخاب عملية يدلي فيها الناس بأصواتهم للمرشح, أو الاقتراح الذي يفضلونه وتجري الانتخابات باختيار المسؤولين في كثير من التنظيمات مثل الجمعيات والنقابات والنوادي الرياضية والاجتماعية. يعتبر حق الانتخاب في الدول الديمقراطية من أهم الممارسات السياسية, فهي وسيلة لنقل السلطة بطريقة سلمية من شخص إلى شخص آخر وفي كثير من البلاد يجري أحياناً نوع آخر يعرف باسم الاستفتاء للبت في مسائل دستورية أو سياسية مهمة.
تختلف إجراءات ونظم الانتخابات من بلد لآخر إلا أن هناك أسساً معينة يجري العمل بها في كثير من البلدان. وفي الغالب , ينتخب رؤساء الدول والحكومات والهيئات التشريعية على فترات منتظمة. وإذا توفي عضو الهيئة التشريعية أو استقال, تعقد انتخابات فرعية لانتخاب بديل يحل محله.
وفي البلدان الديمقراطية يحق لكل المواطنين, فوق عمر محدد – عادة(18أو21 سنة )- الإدلاء بأصواتهم ما داموا مسجلين, ولم يفقدوا هذا الحق لسبب أو لآخر. ويستثنى من ذلك الذين يعانون من مرض عقلي ومرتكبو بعض أنواع الجرائم. تجرى انتخابات الهيئات التشريعية (البرلمانات) عادةً, بالاقتراع السري. فكل شخص حر في التصويت دون أن يتأثر بالآخرين. وتتحدث وسائل الإعلام التي تشمل: الإذاعة والتلفاز, والمجلات والصحف عن المرشحين وعن المسائل المهمة المطروحة في الانتخابات بحرية.
تختار الأحزاب السياسية في أكثر البلاد الديمقراطية مرشحيها لعضوية الهيئات التشريعية, وتقترح السياسات العامة. غير أنه في - بعض الدول النامية - تجرى الانتخابات المحلية على أسس غير حزبية, أي تظهر أسماء المرشحين بدون الإشارة إلى انتماءاتهم الحزبية.
يختار المقترعون الموظفين الرسميين من بين المرشحين لتولي المناصب إما بالانتخاب المباشر أو غير المباشر. ففي الانتخاب المباشر يدلي الناس بأصواتهم بأنفسهم للمرشحين. أما في الانتخاب غير المباشر فيختار الناس ممثلين لهم ليكونوا هيئة انتخابية, ويقوم ممثلو الشعب بدورهم باختيار المرشحين وفقاً للاتجاه الشعبي الذي يمثلونه .
وفي ظل النظام البرلماني - ويطلق عليه أيضاً الحكم البرلماني - ينتخب المواطنون أعضاء الهيئة التشريعية أو البرلمان. ويختار الملك أو رئيس الجمهورية رئيس الوزراء من بين أعضاء الهيئة التشريعية. وفي أغلب البلاد يعين رئيس الدولة زعيم حزب الأغلبية في الهيئة التشريعية أو رئيس الائتلاف الحزبي رئيساً للحكومة .
ولكن هل يستحق كل من كان فوق عمر( 18 أو 21 )أن يشارك في اختيار الرئيس للشعب بحجة الديموقراطية، إن هذا العموم سيدخل فيه ولا شك كل فرد من أفراد المجتمع مهما كانت انتماءاته، ومهما كانت ميوله وأخلاقه، وعندها سوف تكون الرئاسة من نصيب كل من يحقق رغبات الشعب، سواء أكان هذا الشعب يريد الأخلاق أو كان منسلخاً من القيم والمفاهيم التربوية الصحيحة .
نظرية الانتخاب : هي وظيفة بواسطتها يساهم المواطنون فى التعبير عن الإرادة العامة وأساس ذلك أن حق الانتخاب مقرر لصالح المواطن ومن ثم واجب على المواطن أن يزاول هذا الحق لحساب الشعب وعلى مقتضى القانون مثله فى ذلك مثل الشخص الذى يباشر وظيفة عامة.
تكوين هيئة الناخبين: كيف تتكون هيئه الناخبين : إن التطور التاريخي لفكرة الانتخاب فى الدول الديمقراطية الغربية أخذت بمبدأ الاقتراع وقيدته بشرطين:
1-الثروة: وهو وجوب أن تتوافر فى الناخب نصاب مالى معين ( مالك أو حائز لعقار – أو دافع الضرائب ).
2- العلم والكفايه
درجة علمية – القراءة والكتابة).
ثم نتيجه انتشار الديمقراطية فى القرن( 19 , 20 )تخلصت الدول من هذين القيدين ،وكان من الطبيعي أن تتطلب فى الناخب شروطاً معينة لا تعد قيوداً لأنها تستهدف الصالح العام مثل:
1-الجنسية :ويقتصر حق الانتخاب على المواطنين دون الأجانب
واستبعد كل تفرقة تقوم على الأصل أو الدين .
2-السن: وينبغي بلوغ سن معينة(18-12-25) تسمح له بأن يتفهم الحقوق السياسية.
3-الصلاحية العقلية: يشترط فى الناخب أن يكون مالكاً لقواه العقلية ،وتقدير ذلك يرجع للجهات، الطبية المتخصصة، والقضاء، وحرمان مؤقت ينتهي بانتهاء المرض.
4- الصلاحية الأدبية والأخلاقية ألا يكون قد صدرت ضده أحكام فى جرائم مخلة بالذمة والكرامة والشرف .
طريقة اختيار الحاكم في النظام الإسلامي :
1- طريقة البيعة :يتم فيها اختيار الخليفة عن طريق أهل الحل والعقد ثم مبايعة المسلمين وهناك من يرى أن اختيار الخليفة بهذه الطريقة فيه حجر على حق الأمة فى الاختيار وقد ذهب إلى هذا القول بعض المعتزلة وقالوا إن الأمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم . وروي عن الإمام أحمد قوله (تدري ما الإمام؟ الذي يجتمع المسلمون عليه ، كلهم يقول : هذا إمام ، فهذا معناه) ويرى الدكتور محمد رأفت عثمان أن مشاركة جماهير الأمة في عملية الاختيار لا تؤدي في الواقع إلى تحقيق الاختيار الأمثل وإلى تحقيق مبدأ الشورى عملا لأن غالبية الجماهير تنقصها الوعي السياسي وتنساق وراء دعاية بعض الأفراد بل أن اشتراكهم يكون له فى الغالب تأثير سيء على عملية الاختيار الموفق وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء قديماً وحديثاً .
يقول الشيخ االمطيعي فى كتابه المجموع وتكملة المجموع ،إن العبرة إذن فى رأيهم باختيار أهل الحل والعقد ولا يلتفت الى إجماع الدهماء ؟؟ لأن طبقة الدهماء لا بد أن تكون مقلدة لفئة منها تؤثر عليها بالدعاية والضجيج فلا تستطيع أن تحكم بأناة وتعقل لتختار الإمام العادل ومن ثم فإن أهل الحل والعقد وهم الطليعة الواعية والفئة المستنيرة من أهل الاجتهاد ومن الأمة هم الجديرون باختيار الإمام ؟ويقول فى موضع آخر بذات المرجع لأن أي شعب مهما بلغت درجة وعيه السياسي فيه طائفة قد توافرت فيهم القدرة على التمييز بين الصالح وغير الصالح لهذا المنصب.
أدلة الاختيار بطريقة البيعة: ويستدلون بقوله تعالى: في سورة آل عمران، الآية(159)،{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، وكذلك فى قوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، سورة الشورى الآية(38) أما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
لو كنت مؤمراً أحد دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد) يعنى ابن مسعود . وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحداً دلالة على أن هذا حق الأمة تختار من تراة أهلاً للقيام على أمرها.
من هم أهل الاختيار ؟وكيف يتم اختيارهم ؟هم أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى عند جماهير المسلمين وهم الذين يتولون ترشيح الخليفة والمفاضلة بين المرشحين ومناصحة الخليفة ومحاسبته بل وعزله إن اقتضى الأمر ذلك .
شروط اختيارهم : أ-أن يكون من أهل الولاية العامة ( 1-الإسلام ، أي أن يكون مسلماً 2- العقل ،أن يكون عاقلاً 3-الحرية ، ألا يكون عبداً أو أسيراً4-الذكورة،أي لاولاية لامرأة )ب- أن تتوفر فيه شروط خاصة تبرزه عن غيره وهي (1-العدالة 2- العلم 3- الرأي 4-الحكمة) .
كيف يتم تنصيب الإمام: إذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته و لا يتوقفون عن بيعته فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامه فلزم الكافة الدخول إلى بيعته والانقياد لطاعته وإن امتنع عن الإمامة ولم يجب إليها لا يجبر عليها لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار ويعدل عنه إلى سواه من مستحقيها وإذا تعين للإمامة شخص واحد قد توافرت لديه شروطها لا يصح لها غيره فلا يجوز له أن يرفض وإن رفض فأنه يجبر عليها لأنه صار فرض عين فى حقه دليل ذلك بيعة الإمام علي رضى الله عنه .
البيعة العامة من جماهير المسلمين: بعد أن ينتهى أهل الحل والعقد من ترشيح من يرونه أهلاً للإمامة ويعرضونها عليه ويقبل تبقى مبايعة جماهير المسلمين له وإعلانهم الدخول فى طاعته وقد اختلف فقها ء المسلمين القدامى فى جوهر البيعة فاعتبر بعضهم أن بيعة أهل الحل والعقد هى الأساس فى عملية تنصيب الإمام وأن ما يحدث من جماهير المسلمين بعد ذلك إنما هو مجرد عملية شكلية تعلن فيها الجماهير عن دخولها فى الطاعة وتأييدها لما يراه أهل الحل والعقد وتنعقد الإمامة بمجرد عقدها لمستحقها دون توقف على مبايعة جماهير المسلمين أو إجماع الدهماء ويستندون فى ذلك إلى أن طبقة العامة والمقلدة ( الجماهير ) تعجز عن مجرد الاختيار الصحيح ولهذا فاختيارها باطل ولو وافق الصواب لأن الأصل فيها أنها تقلد غيرها وتنساق وراءه فلا يكون لها حكم فى مثل هذه الأمور. إن أهل الحل والعقد هم وجوه الناس وفضلاؤهم يفترض فيهم أنهم مطاعون متبوعون لا يختلف اثنان على نتيجة اختيارهم. إن أهل الحل والعقد شركاء للإمام في تحمل الأمانة وإنهم سيتحملون وزره إن لم يترووا فى اختيار الصواب. وفى رأي آخر أن بيعة أهل الحل والعقد ماهي إلا ترشيح منهم لمن يرونه أهلاً لتولي هذا المنصب لذلك لابد لهذا الترشيح من مبايعة يقوم بها جماهير المسلمين تعبر عن رضائهم به ودخولهم فى طاعته ولو لم يتلق المرشح هذه البيعة العامة فإنه لا يصح بحال أن يوصف بأنه إمام للمسلمين .ويؤكد صاحب هذا الرأي ولما لأهل الحل والعقد من تأثير على جماعة المسلمين لم نر مرشحاً اتفقت عليه كلمة أهل الحل والعقد ثم رفضته جماهير المسلمين بل إنهم كانوا يسارعون إلى مبايعة من حاز على ثقة أهل الحل والعقد.
مدة الرئاسه: لم يعرف النظام السياسي الإسلامي تحديداً لمدة الرئاسة فى الدولة، فالخليفة يظل فى منصبه ما دام حياً إلا إذا زالت عنه الأهلية وفقد بعض الشروط أو عجز عن مزاولة سلطانه , فأنه يترك منصبه لمن هو أهل له واجدر به .
وقد جرت السوابق التاريخية الإسلامية على أن يبقى الخليفة في منصبه مدى حياته مالم يعزل منه ومن حقوق الإمامة أن يبقى حاكماً ما دام صالحاً للإمامة وليس له وقت محدد ينتهي إليه حتى ينتهي أجله أو تنتهي قدرته وطاقته فى القيام بها وهذا ما يخالف فيه الإسلام النظم الديمقراطية التي تحدد فترة معينة للرئيس ثم عدها ينتخب انتخاباً ثانياً.
2-طريقة الاستخلاف: طريقة ثانية لاختيار الحاكم وقد جعل فقهاء المسلمين الاستخلاف فى مرتبة الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد وأن طريق الاستخلاف هو أفضل الطرق لا ختيار الخليفة لما فيه من اتصال الإمامه وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف .
الاستخلاف: هو عهد من الإمام الشرعي إلى من يخلفه فى سياسة الأمة بعد وفاته فالخليفة إذا شعر بمقدمات الموت ودنو أجله فيجوز له أن يختار للمسلمين من يقوم مقامه من تحمل المسئولية فهو أمين على مصالح الأمة فى دينهم ودنياهم – ينظر ذلك لهم فى حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته .
وبعد خطوة الاستخلاف يجب أن يقبل المعهود إليه تحمل التبعة ولايجوز إجباره على ذلك فى حالة رفضه ثم يوافق أهل الحل والعقد على هذا الاستخلاف ثم أخيراً تأتي البيعة من جماهير المسلمين ويقترب الاستخلاف كطريق من طرق تنصيب الإمام من طريق الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد فكلاهما يعد ترشيحاً غير ملزم لجماعة المسلمين بل يجب أن تعقبه بيعة عامة من جماهير المسلمين .
شروط صحة الاستخلاف:1-أن يكون المستخلف قد توافرت فيه الشروط الواجب توافرها فى المرشح للخلافة 2-أن يقبل المستخلف عبء الإمامة وتبعة الخلافة 3-أن يكون الإمام العاهد قد قام بهذا العهد والاستخلاف والإمامة معقودة له ففى حالة وجود عارض يخرجه عن الإمامة لا يصح الاستخلاف 4-أن يكون الاستخلاف بعد مشورة أهل الحل والعقد ثم يبايع المسلمون المعهود إليه ويرضونه إماماً واجب الطاعة.
هذه طريقة الاستخلاف كما عرفها المسلمون الأوائل كطريقة مشروعة لاختيار الإمام ولكن الحال لم يستمر كما كان عليه فى عهد الخلفاء الراشدين فانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض وتحولت الشورى الى قيصرية وكسروية وصار الاستخلاف هو الطريقة الرئيسية فى انتقال السلطة ونصب الخلفاء. وتخلف عن هذه الطريقة أهم عناصرها وهو أن يسبقها مشورة أهل الحل والعقد ويعقبها بيعة حرة عامة من جمهور المسلمين وأصبحت البيعة شكلاً لاروح فيه تؤخذ بالرغبة والرهبة .
الولاية والتولية:
قال ابن تيمية: فالحل والحرمة متعلق بالأفعال وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين.
ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماماً بذلك وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرةوالشوكة ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك .
فمن قال إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضره فقد غلط.
وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه و سلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها ومع قيام الأدلة الشرعية لا يضر من خالفها ونفس حصولها ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة.
فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر . كما قال تعالى{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(سورة الحديد الآية(25).
الاستفتاء والانتخاب:
المراد بالاستفتاء طلب الرأي والمشورة في أمر يهم الجماعة والمجتمع، وسمي استفتاءً لشبهة بالفتوى بين السائل والمفتي، والاستفتاء في الأمور المباحة من أمر الدين والدنيا جائز شرعًا، والناس منذ القدم وإلى يومنا هذا يسأل بعضهم بعضًا، ويستفتي الجاهل العالم، ويسأل من يجهل الأمر من هو أعلم به منه، وما زال الناس على هذا دون نكير؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص من الشارع، فإذا كان الاستفتاء على شيء محرم كالاستفتاء على إباحة الربا أو تحريمه، أو جواز الزنا والشذوذ الجنسي، أو منعه، أو تحليل الغناء أو تحريمه، ونحو ذلك، فهذا حرام لا يجوز، وهو تشريع بما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَ مْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ...}، سورة الشورى الآية(21).وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، سورة المائدة الآية(50).
وإذا كان الاستفتاء على الدستور في جملته، وهو دستور وضعي لا يعتمد الشريعة في مواده وأحكامه، فيجوز الاستفتاء عليه؛ لأنه عمل بشري دنيوي، وإن كان يعتمد الشريعة في فصوله وأبوابه ومواده، فلا يجوز الاستفتاء عليه حينئذ؛ لأنه متضمن أحكامًا شرعية قطعية واجب العمل بها، ولا يجوز طرحها للاستفتاء،
أما الاستفتاء لاختيار الحاكم أو بعض نوابه فيجوز ذلك؛ لأن الأمر يخص الناس، وعليهم التشاور، ومنه الاستفتاء باختيار الأفضل والأمثل، والدليل على هذا ،أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، لما توفي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بقي يشاور الناس ثلاثة أيام، وكان يشاور النساء العذارى في خدورهن، ثم أخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، رضي الله عنه . وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، كان بقي ثلاثة أيام يستشير الناس في عثمان وعلي، رضي الله عنهما، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجالهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة . وإذا جاز الاستفتاء (التشاور) على اختيار الحاكم جاز على عزله من باب أولى.
أجمع علماء أهل السنة بجميع مذاهبهم، ومعهم الفرق الإسلامية الأخرى باستثناء (الشيعة الإمامية)، أن طريقة إيجاد الإمام المسلم هي باختيار الأمة، وفي العصور الأولى كان يتم الاختيار عن طريق (أهل الحل والعقد)، وتقوم الحجة ببيعتهم الخاصة التي يعقبها البيعة العامة من جميع الناس.
ولذلك في العصر الحاضر تكون الطريقة الشرعية عبر الانتخابات العامة الصحيحة والنزيهة التي يقوم على إجرائها الأمناء الذين تختارهم الأمة وتثق بهم.
تنعقد الإمامة عند فقهاء الإسلام بوجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد (أي بالبيعة أو الانتخاب) والثاني: بعهد الإمام من قبل أو يجعل شورى بين قوم. وروي عن الإمام أحمد وغيره: أنها تثبت بالقهر والغلبة ، ولا تفتقر إلى العقد، وعبارة الحنفية في ذلك: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة، لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً، وهذا من قبيل التسليم بالواقع اضطراراً منعاً للفوضى مع مخالفة مبدأ الشورى المقرر في الإسلام .
وإقرار الفقهاء لحالات الإمامة الاستثنائية يدل على جواز إقرار حالات واقعية مماثلة.
ويختار أولو الأمر بالنيابة عن الأمة من العلماء المختصين ، ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة،(المرشح لمنصب الحاكم أو الوالي) ويكون ذلك في شكل كلية أي أكثر من واحد حتى يعرضوا على الأمة لتختار أحدهم ، فأيا كان الاختيار فهو أهل للولاية ، كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم بعض الخلفاء الراشدين (وهو عمر رضي الله عنه) للترشيح لمنصب الخلافة، وإتمام البيعة للمرشح من سائر الناس.
ويؤخذ في التصويت برأي الأكثرية أو الأغلبية، عملاً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر المجتهدين حجة، وإن لم يكن إجماعاً؛ لأن الخلافة لا يشترط فيها الإجماع ، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم : «يد الله مع الجماعة» «عليكم بالجماعة والعامة» «اتبعوا السواد الأعظم» وهو معنى (العزم) في آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، سورة آل عمران الآية(159) أي ( مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ) كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم ، وقال لأبي بكر وعمر مستشاريه: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» .لأنهما من أهل الحل والعقد.
وكما أبان عمر للرهط الستة في كيفية اختيار الخليفة من بعده، من الفريق الذي في صفِّه عبد الله بن عمر في حالة تساوي الأصوات، وهي قصة الشورى أو بيعة عثمان .